عندما دخلت لندن حالة الإغلاق العام في مارس/آذار الماضي، سرعان ما أدرك بالتازار روميرو أن وظيفته كمدير حجوزات قد تكون مهددة، إذ جرى تقليص الفريق الذي كان يديره من 10 أشخاص إلى شخص واحد فقط، كما خُفضت ساعات عمله بمقدار الثلث.
ويقول روميرو، البالغ من العمر 34 عاماً: “كان واضحاً أن العمل في قطاع الضيافة سيكون صعباً لعدة سنوات قادمة. وفي أغسطس/آب الماضي أبلغوني أنهم لا يحتاجونني، وأنهوا خدمتي. وبذلك سهلوا علي اتخاذ قرار القيام بتغيير جذري”.
التحق روميرو بدورة دراسية في مجال هندسة البرمجيات في سبتمبر/أيلول وبدوام كامل مدة ثلاثة أشهر. ويشير روميرو إلى أنه كان يفكر في تغيير مهنته منذ بعض الوقت، لكن انتشار الوباء كان الدفعة التي يحتاجها. ويضيف أن ميله للتكنولوجيا كفيل بجعل هذه المهنة مناسبة له، إلا أن الطلبات المستمرة من قبل الشركات العاملة في هذا المجال لمزيد من المبرمجين ساعدت بالتأكيد في اتخاذ قراره.
ويقول روميرو: “يبدو أنه عاجلاً أم آجلاً سيكون على الجميع الانضمام إلى هذا المجال”.
وبما أن الوباء أدى إلى خسارة ملايين الناس لوظائفهم، وعمل على تسريع إعادة تشكيل صناعات بأكملها، فإن الباحثين عن عمل في أنحاء العالم أصبحوا يجدون أن المهارات الجديدة هي التي ستكون مفتاح الوظيفة الثابتة في “الوضع الطبيعي الجديد”.
فعلى سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في سبتمبر/أيلول الماضي عن خطط تهدف إلى تحسين مهارات القوة العاملة عن طريق توفير دورات دراسية مجانية وورشات تدريب على المهارات الرقمية، ومزيد من فرص التدريب المهني، وذلك من أجل “إعادة البناء بشكل أفضل مما كان عليه الأمر قبل كورونا”.
لكن هناك خبراء يقولون إن تدريب ملايين الأشخاص على مهارات تقنية جديدة ليست له فائدة تذكر ما لم تتوفر وظائف كافية في نهاية الأمر.
ويقول غوردون لافير، الخبير في الاقتصاد السياسي في جامعة أوريغون: “يمكن أن تكون مفيدة بالنسبة لأفراد، لكنها غير صالحة لأن تكون سياسة اقتصادية. كل مرة تحدث فيها أزمة اقتصادية، تبرز فكرة التدريب لتحسين المهارات، ولم يحدث أن نجحت”.
بدأ بالتازار روميرو في سبتمبر/أيلول دراسة هندسة البرمجيات في دورة مدتها ثلاثة أشهر بدوام كامل للانتقال من وظيفته في مجال الضيافة
وقبل أن يجتاح الوباء العالم ببضعة أشهر، كانت كلير وينتربوتوم، البالغة من العمر 42 عاماً والتي تعيش في ليدز، قد بدأت رحلتها لإعادة تشكيل مهاراتها. وكانت قد حصلت على إجازة من وظيفتها كمستشارة قروض، وقررت الاستفادة من الوقت في العودة إلى التدريب كمطورة مواقع إنترنت. وإلى جانب اهتمامها الدائم بالتكنولوجيا، فإنها حريصة أيضا على “إثبات نفسها في المستقبل”.
وحصلت وينتربوتوم في يناير/كانون الثاني الماضي على مكان في دورة دراسية مجانية مخصصة للنساء ومدتها أربعة أشهر. وقيل لها إن جميع اللواتي درسن في المجموعة السابقة، باستثناء اثنتين فقط، حصلن على وظائف في مجال التكنولوجيا.
إلا أن الدورة الدراسية لهذا العام انتهت في أبريل/نيسان في ذروة الموجة الأولى من الوباء. وبعد سبعة أشهر تقريباً، لم يحصل سوى أربعة فقط من بين زميلاتها في الصف الذي ضم 16 طالبة، على وظائف في هذا المجال.
وتقول وينتربوتوم إن الأمر غير مستغرب، فحالة الركود أضرت بكل شيء، ولا توجد طلبات تقريبا لمطورين جدد. وتضيف: “هناك أشخاص آخرون كثيرون استغلوا فترة الوباء في دراسة البرمجة. لذا، يوجد المزيد من الأشخاص الذين لديهم مهارات جيدة، في حين أن عدد الوظائف أقل”.
ويعتبر لافير، الذي درس خطط التدريب على الوظائف في الولايات المتحدة منذ الثمانينيات، أن الاعتقاد بإمكانية حل مشكلة الوضع الوظيفي غير المستقر الذي يجد العاملون أنفسهم فيه اليوم عن طريق التدريب، هي فكرة غير منطقية. فالناس عاطلون عن العمل لأن الوباء أدى إلى إغلاق قطاعات واسعة من الاقتصاد، وليس بسبب نقص المهارات.
ويقول: “إذا كان التدريب لتحسين فرص العمل ممكن أن يكون مفيدا، فقطعا ليس الآن”.
لكن حتى قبل انتشار الوباء، لم تكن مقولة إعادة تشكيل المهارات، تستند إلى أساس صلب. فالتأثير المزدوج للعولمة والتقدم التكنولوجي أدى إلى تقلص الوظائف ذات الأجر الجيد والأعمال المكتبية المعتادة. وقد دأبت الحكومات على الترويج لإعادة تشكيل المهارات بوصفها الحل، انطلاقاً من المنطق الذي يقول إنه مع تراجع مجالات مثل الصناعة التحويلية مقابل ازدهار تكنولوجيا المعلومات، فهناك فجوة متنامية الاتساع بين المهارات التي يحتاجها أصحاب العمل وتلك الموجودة لدى العاملين، لا سيما في مجالات مثل العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وبالتالي، فإن تعليم العمال المهارات المطلوبة، مثل البرمجة، يمكن أن يصيب عصفورين بحجر واحد: تلبية احتياجات الصناعة ومساعدة العمال على تجديد حياتهم المهنية.
لكن الأدلة المتوفرة لا تدعم فكرة وجود “فجوة في المهارات”. وتجد هايدي شيرهولز، كبيرة الاقتصاديين السابقة في وزارة العمل الأمريكية، أن الدليل الواضح على وجود “فجوة في المهارات” فعلاً سيتمثل في توفر وظائف معينة تتميز ببطالة منخفضة ونمو قوي للأجور، ما يعكس وجود منافسة حقيقية بين الشركات لتوظيف من لديهم المهارات المطلوبة. لكن مثل هذا الدليل لم يحدث أن تحقق.
وفي عام 2018، كانت المهن الوحيدة التي تقترب من الوصف السابق هي في المجال القانوني فقط. وفي الواقع، ذكر أصحاب شركات أنهم يواجهون صعوبات في توظيف أشخاص جدد لأن الأجور التي يعرضونها لا تتناسب مع المهارات التي يطلبونها، كما تقول شيرهولز.
ويقول هال سالزمان، عالم الاجتماع في جامعة روتجرز، إن الأرقام تشير إلى وجود فائض في المهارات المعروضة. وفي بحث أجراه عام 2018، وجد سالزمان وزملاؤه أن نحو 60 إلى 70 في المئة فقط من خريجي الحوسبة والهندسة في الولايات المتحدة يحصلون على وظائف في مجالات مثل العلوم أوالتكنولوجيا أو الهندسة أو الرياضيات، وتنخفض هذه النسبة إلى ما بين 10 و50 في المئة بالنسبة لدارسي علوم الحياة والعلوم الفيزيائية والرياضيات.
وتوصلت دراسة أجراها مكتب الإحصاء الوطني البريطاني ونشرت العام الماضي إلى أدلة مماثلة في المملكة المتحدة تؤكد بأن نقص المهارات ليس هو المشكلة. وأظهرت البيانات أن 16 في المئة من العاملين في عام 2017 كانت مؤهلاتهم أعلى من المطلوب في وظائفهم، وارتفعت هذه النسبة إلى 31 في المئة بين الخريجين.
ويقول لافير إن جانباً من المشكلة يتمثل في أن المهن التي يجري عادة تشجيع الأشخاص على العودة إلى التدريب ليحصلوا عليها لا تمثل سوى جزء صغير فقط من إجمالي الوظائف. كما أن الكثير من الشركات وأماكن العمل أصبحت تستخدم التكنولوجيا لإتمام المهمات بحيث تنعدم الحاجة إلى موظفين متدربين.
صدر الصورة،NICK OLEXYN
التعليق على الصورة،
حين كانت ستيفاني ليز في إجازة طويلة من المطعم الذي تعمل به بسبب الوباء، درست البرمجة على الإنترنت
فلماذا إذا يواصل واضعو السياسات وقادة عالم الأعمال التركيز على فكرة إعادة تشكيل المهارات؟ يعتقد لافير أن ذلك يمنحهم طريقة سهلة لعدم تحمل المسؤولية عبر إرجاع سبب ضيق آفاق التوظيف إلى فشل الباحثين عن عمل في اكتساب المهارات المطلوبة، بدلاً من إحداث تغييرات هيكلية أعمق في الاقتصاد لحل المشكلة.
ويرى لافير أن الخيار الأفضل قد يكون الضغط من أجل تحسين الأجور وظروف العمل في المجالات التي توظف الكثير من الناس، لكن بعوائد مادية غير عادلة وغير مشجعة، مثل قطاع البناء والرعاية الصحية والتعليم. إلا أنه يقر بأن هذا النقاش جدلي وقد لا يؤدي إلى نتيجة.
أما مارسيلا إسكوباري، من معهد بروكينغز الأمريكي، فترى أن التركيز على إعادة تشكيل المهارات ليس “مؤامرة” ضد العاملين، بقدر ما هو نتاج مجموعة متشابكة من الدوافع الخاطئة والحرص المفرط على إيجاد حل سحري.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، نشرت إسكوباري وزملاؤها تقريراً خلص إلى أن التركيز قصير النظر على إعادة تشكيل المهارات يهمّش في الواقع تأثير وجود حواجز أخرى عديدة من شأنها أن تجعل الموظفين سجناء وظائف لا تمتلك أي أفق.
وتقول إسكوباري: “هناك بالتأكيد حالات تكون فيها المهارات ضرورية. لكن هناك الكثير من الأسباب الأخرى التي تجعل الناس عالقين في وظائف منخفضة الأجور، ولا تتيح فرصة للتطور”.
وعندما درست إسكوباري وزملائها حالات انتقال الموظفين إلى وظائف أخرى على أرض الواقع، وجدوا أن معظم الموظفين لا يحتاجون إلى تدريب جديد. وإنما يتعلق الأمر باختيار مجال مناسب لهم للانتقال إليه، إما لأن مهاراتهم تناسب الوظيفة الجديدة، أو لأن الطلب كان عالياً في اختصاصهم.
وأنشأت هي وزملاؤها موقعا خاصا على الإنترنت يستخدم بيانات واقعية بخصوص تغيير الوظائف لكي يعرف الأشخاص نوعية الوظائف التي نجح عاملون في نفس مهنتهم واختصاصهم بالانتقال إليها. ويأملون أيضاً أن يطلع أصحاب العمل على النتائج ليتمكنوا من تحديد القطاعات التي يمكنهم أن يوظفوا أشخاصاً يعملون فيها.
وتقول إسكوباري إن الذين يضعون السياسات يجب أن يركزوا على جعل هذا النوع من الإنتقالات الوظيفية أسهل. ويمكن أن يشمل ذلك إنشاء شكل من المزايا الوظيفية قابل للنقل، بمعنى أن يتمكن الموظفون من نقل ميزات مثل التأمين الصحي، أو خطة التقاعد معهم عندما ينتقلون للعمل في شركة أخرى، إضافة إلى تحفيز أصحاب العمل على إنشاء المزيد من الوظائف للخريجين الجدد، واستبدال اتجاه تخفيض الميزانية المستمر منذ عقود بمشاريع تدريب داخلية.
لكنها تقول إن هناك حاجة أيضاً إلى بذل مزيد من الجهود لإزالة الحواجز أمام الذين لديهم حاجة حقيقية لإعادة صقل مهاراتهم والذين هم عادة الأقل قدرة على القيام بذلك. فعندما يتعلق الأمر مثلاً بالعمال ذوي الأجور المنخفضة، فإن السبب غالبا ما يكون بسيطا ويتمثل في عدم إمكانية الحصول على إجازة من العمل، أوعدم امتلاك سيارة للذهاب إلى مكان التدريب. ولأن تقييم نجاح برامج إعادة تشكيل المهارات يكون غالباً بناء على نتائجها، يعمد القائمون عليها إلى اختيار المرشحين الأوفر حظاً لتحقيق النجاح المهني، ويرفضون الباقين.
وهذا لا يعني أن إعادة تشكيل المهارات فكرة سيئة لجميع الأشخاص وعلى مستوى العالم. فعلى سبيل المثال، حصلت ستيفاني ليز، البالغة من العمر 28 عاماً على إجازة طويلة من المطعم الذي تعمل به في ليدز بسبب الإغلاق الذي رافق انتشار الوباء، فاستغلت الوقت في دراسة البرمجة عبر الإنترنت. وبعد ثلاثة أشهر، حصلت على تدريب مدفوع الأجر مع شركة “هادل” لتطوير مواقع الإنترنت في مانشستر، ولاحقاً تحول التدريب إلى وظيفة.
وتعتبر ليز أن الكم الهائل من الموارد المجانية أو زهيدة السعر المتاحة عبر الإنترنت اليوم يعني أن أي شخص يمكنه تعلم البرمجة إذا بذل جهدا حقيقياً، وهي تدرك أن الإجازة الطويلة من عملها في المطعم هي التي أتاحت لها أن تتعامل مع دراسة البرمجة وكأنها وظيفة بدوام كامل، كما أنها كانت محظوظة بإيجاد شركة مستعدة لتبني مطور جديد. وتقول: “أعطوني الوقت الكافي، وكانوا صبورين معي وأطلعوني على ما يجب أن أعرفه، ودعموني”.
أما وينتربوتوم، وعلى الرغم من أن حصولها على العمل المرغوب ما زال يتعثر حتى اليوم، فهي واثقة أيضاً من أنها ستحصل في النهاية على وظيفة مطورة برامج. وإن حدث ذلك، فسيكون إرضاء لشغفها بالبرمجة، فهي الآن موظفة بالفعل، ولا تخشى أن لا تتمكن من دفع الفواتير.
وتعتقد وينتربوتوم أنه لا يوجد حل مناسب للجميع، وترى أنه نوع من التضليل من قبل السياسيين أن يقترحوا إعادة تشكيل المهارات كحل رداً على الخراب الذي أحدثه الوباء في سوق العمل.
وتقول: “عليك أن تعمل بجد، وتقوم بكل الأنشطة الإضافية الممكنة. من دون هذا الشغف، لا يمكنني أن أتوقع الوصول إلى أي مكان”.
واقرا أيضاً :
بعد ما انتظرته 4 سنين ساني واتدوز واحدة تانية !!
بيضربني وياخد مرتبي لو طلبت الطلاق أكون صح ؟
زوجتي عديمة المشاعر ونكدية وكئيبة